فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين}
يجوز أن تكون {كلا} بمعنى حقًّا و(ألا) فيبتدأ بها.
ويجوز أن تكون بمعنى (لا)، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقُّون.
يدل على ذلك قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غُررت به.
وقيل: أي ليس الأمر كما تقولون، من أنه لا بعث.
وقيل: هو بمعنى الردع والزجر.
أي لا تغتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته.
ابن الأنباريّ: الوقف الجيّد على {الدينِ}، وعلى {ركبك}، والوقف على {كلا} قبيح.
{بَلْ تُكَذِّبُونَ} يا أهل مكة {بالدين} أي بالحساب، و{بل} لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره.
وإنكارهم للبعث كان معلوماً، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.
قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي رُقباء من الملائكة {كِرَاماً} أي على؛ كقوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} وهنا ثلاث مسائل:
الأولى رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرمُوا الكرامَ الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الخِرَاءة أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم (حائط) أو بغيره، أو ليستره أخوه» ورُوي عن علي رضي الله عنه قال: لا يزال المَلكَ مولياً عن العبد ما دام باديَ العورة.
ورُوِي: (إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئِزر لعنه ملكاه).
الثانية واختلف الناس في الكُفّار هل عليهم حفَظَة أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد؛ قال الله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41].
وقيل: بل عليهم حفظة؛ لقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.
وقال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] وقال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]، فأخبر أن الكفار يكون لهم كُتّاب، ويكون عليهم حفَظَة.
فإن قيل: الذي على يمينه أيَّ شيء يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب.
والله أعلم.
الثالثة سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبدَ قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النَّتْن.
وقد مضى في (ق) عند قوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قول إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] زيادة بيان لمعنى هذه الآية.
وقد كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك.
وقد مضى في آخر (آلِ عِمران) القول في هذا.
وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم.
وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدّثتم به أنفسكم.
والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَلاَّ} ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجباً للشكر والطاعة وقوله تعالى: {بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين} إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترؤن على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأساً أو بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاباً وفيه ترق من الأهون إلا الأغلظ وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا مقتضى لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون الخ.
وقيل إن {كلا} ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث و{بل} إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من نفي البعث والنشور ثم قيل لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون إلخ وأدغم خارجة عن نافع {ركبك كلا} كأبي عمرو في إدغامه الكبير.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر {يكذبون} بياء الغيبة وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} حال من فاعل {تكذبون} مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على لوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال إن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم.
{كِراماً} لدينا {كاتبين} لها.
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من الأفعال قليلاً كان أو كثيراً ويضبطونه نقيراً أو قطميراً وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلا لكان عبثاً ينزه عنه الحكيم العليم وقيل جيء بهذه الحال استبعاد للتكذيب معها وليس بذاك وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز وجل من جلائل الأمور حيث استعمل سحبانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم إن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] فمع الإنسان عدة ملائكة روى عن عثمان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكاً قال المهدوي في الفيصل وقيل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور على العاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة الأبعد مضى ست ساعات من غير مكفر لها ويكتبان كل شيء حتى الاعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء وأخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل» ولا يمنع ذلك من كتبهما مايصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمناً ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافراً واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز وجل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)}
{كَلاَّ} ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله: {ما غرك بربك} [الانفطار: 6] من حصور ما يغرّ الإِنسان بالشرك ومن إغْراضه عن نعم الله تعالى بالكفر، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإِنكار المستفاد من قوله: {ما غرك بربك الكريم}.
والمعنى: إشراكك بخالقك باطل وهو غُرور، أو كالغرور.
ويكون قوله بعده: {بل تكذبون بالدين} إضراباً انتقالياً من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وجزر لأن {بل} لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم.
ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون: إنها تُتْبَع في اللفظ لا في الحكم، أي هو اتباعُ مناسبة في الغرض لا اتباعٌ في النسبة.
ويجوز أن يكون {كلاّ} إبطالاً لوجود ما يغرّ الإِنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإِنسان في الإِشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به.
ويكون قوله: {بل تكذبون} إضراباً إبطالياً، وما بعد {بل} بياناً لِما جرَّأهم على الإِشراك وأنه ليس غروراً إذ لا شبهة لهم في الإِشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإِشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صُراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضِها بطلانُ كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا.
وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جُماع الإِجرام، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى: {فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون} في سورة الانشقاق (20، 22).
وقرأ الجمهور: {تكذبون} بتاء الخطاب.
وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات.
وفي صيغة المضارع من قوله: {تكذبون بالدين} إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا يقلعون عنه، وهو سبب استمرار كفرهم.
وفي المضارع أيضاً استحضار حالة هذا التكذيب استحضاراً يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء.
والدين: الجزاء.
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}
عطف على جملة {تكذبون بالدين} [الانفطار: 9] تأكيداً لثبوت الجزاء على الأعمال.
وأكد الكلام بحرف {إنَّ} ولام الابتداء، لأنهم ينكرون ذلك إنكاراً قويّاً.
و{لحافظين} صفة لمحذوف تقديره: لملائكة حافظين، أي مُحْصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم.
وجمع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس: وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 17، 18]، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله» وهذا بصريح معناه يفيد أيضاً كفاية عن وقوع الجزاء إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثاً.
وأجري على الملائكة الموكّلين بإحصاء أعمالهم أربعةُ أوصاف هي: الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس.
وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإِحصاء وفيها تنويهٌ بشأن الملائكة الحافظين.
فأما الحفظ: فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر، وهو (على) لتضمنه معنى المراقبة.
والحفيظ: الرقيب، قال تعالى: {اللَّه حفيظ عليهم} [الشورى: 6].
وهذا الاستعمال هو غير استعمال الحفظ المعدّى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله: {يحفظونه من أمر اللَّه} [الرعد: 11].
فالحفظ بهذا الإِطلاق يجمع معنى الرعاية والقيام على ما يوكل إلى الحفيظ، والأمانة على ما يوكل إليه.
وحرف (على) فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة.
وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى: {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم} في سورة النمل (29).
فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكّلوا على حفظه ضبطاً لا يتعرض للنسيان ولا للإِجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب.
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإِحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهَم.
و{ما تفعلون} يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك.
ودخل في {ما تفعلون}: الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإِنسان يُعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية.
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإِسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط.
فلابد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة، أي طهارة النفس.
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوباً، أو كالمكتوب مضبوطاً لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الأعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشُّهود، والخِطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحْكام والأحباس وعقود النكاح.
ومن إحاطة العلم بما يَتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المخالطين لوظيفه أن يموّه عليه شيئاً، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلاً، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصاً على حفظ مصالح الأمة، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإِتقان أعمالها وأشدّ اضطلاعاً بممارستها. اهـ.